سورة يونس - تفسير تفسير ابن عجيبة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (يونس)


        


قلت: {بما كذبوا به} ذكر هنا الرابط، وحذفه في سورة الأعراف، إشارة إلى جواز الأمرين، وإليه أشار في الألفية، بقوله:
كذَا الذي جُرَّ بما الموصُولُ جَر *** ك مُرَّ بالّذي مررْتُ فَهْو بَر
يقول الحق جل جلاله: {ثم بعثنا من بعده}: من بعد نوح عليه السلام {رسلاً}؛ كهود وصالح وإبراهيم وغيرهم {إلى قومهم}، كل رسول إلى قومه، {فجاؤوهم بالبينات}: بالمعجزات الواضحات المثبتة لدعواهم، {فما كانوا ليؤمنوا}؛ فما استقام لهم أن يؤمنوا لشدة شكيمتهم في الكفر، ولسبق شقاوتهم، فما آمنوا {بما كذَّبوا به من قبل} مجيئهم المعجزات، يعني أنهم طلبوا المعجزات ليؤمنوا، فلما جاءتهم استمروا على تكذيبهم، {كذلك نطبع على قلوب المعتدين} فلا تنفع فيهم معجزة ولا تذكير، وفيه دليل على أن الأفعال واقعة بقدرة الله، مع إثبات كسب العبد لقيام عالم الحكمة الذي هو رداء لتصرف القدرة. والله تعالى أعلم.
الإشارة: كما بعث الله في كل أمة رسولاً يذكرهم ويدعوهم إلى الله، بعث الله في كل عصر وليَّاً عارفاً، يدعو الخلق إلى معرفة الله وتوحيده الخاص، فمن سبقت له العناية آمن به من غير طلب آية، ومن سبق له الخذلان لا يصدق به ولو راى ألف برهان. وبالله التوفيق.


الحق جل جلاله: {ثم بعثنا}، من بعد هؤلاء الرسل {موسى وهارون إلى فرعون ومَلَئه بأياتنا} التسع، {فاستكبروا} عن اتباعها، {وكانوا قوماً مجرمين} معتادين الإجرام، فلذلك تهاونوا برسالة ربهم، واجترؤوا على ردها، {فلما جاءهم الحقُّ من عندنا} وعرفوه، وهو بعثه موسى عليه السلام؛ لتظاهر المعجزات على يديه، القاهرة المزيحة للشك، {قالوا} من فرط تمردهم: {إنَّ هذا} الذي جئت به {لسحرٌ مبين}: ظاهر.
{قال} لهم {موسى للحقَّ لمَّا جاءكم} إنه سحر، فكيف يقدر السحرة على مثله؟ {أسحرٌ هذا}: أيتوهم أحد أن يكون هذا سحراً؟ {ولا يُفلح الساحرون} أي: لو كان سحراً لاضْمَحَلَّ، ولم يُبطل سحرَ السحرة، والعالم بأن الساحر لا يُفلح لا يستعمل السحر، فهذا كله من كلام موسى عليه السلام، أو من تمام قولهم؛ إن جعل قوله: {أسحرٌ هذا} محكياً لقولهم، كأنهم قالوا: أجئتنا بالسحر لتطلب به الفلاح ولا يفلح الساحرون، والأول أرجح.
{قالوا أجئتنا لِتَلْفتنا}؛ لتصرفنا {عما وجدنا عليه آباءنَا} من عبادة الأصنام، {وتكون لكما الكبرياءُ في الأرض}: الملك فيها، سمي كبرياء لاتَّصاف الملوك بالتكبر، {وما نحن لكما بمؤمنين}: بمصدّقين.
الإشارة: السحر على قسمين: سحر يسحر القلوب إلى حضرة الرحمن، وسحر يسحرها إلى حضرة الشيطان، فالسحر الذي يسحر إلى حضرة الرَّحمن: هو ما جاءت به الأنبياء والرسل، وقامت به الأولياء بعدهم من الأمور التي تقرب إلى حضرة، إما ما يتعلق بالظواهر، كتبيين الشرائع، وإمّا ما يتعلق بالبواطن، كتبيين الطرائق والأمور التي تُشرق بها أسرارُ الحقائق، وأما السحر الذي يسحر إلى حضرة الشيطان: فكل ما يشغل عن ذكر الرَّحمن، ولذلك قال عليه السلام: «اتَّقُوا الدُّنيا فإنَّها أَسْحَرُ مَنْ هَارُوت ومَارُوت».


قلت: {ما جئتم به} موصوله على من قرأ: {السحر} بلا استفهام، ومن قرأ بالاستفهام ف {ما} مبتدأ و{جئتم} خبرها، و{السحر}: بدل منه، أو خبر لمحذوف، أي: أهو السحر؟ أو مبتدأ حذف خبره، أي: السحر هو.
يقول الحق جل جلاله: {وقال فرعونُ} لما أراد معارضة موسى عليه السلام: {ائتوني بكلِّ ساحرٍ}، في قراءة الأخوين {سحَّار} {عليم}: حاذق في فنه، {فلما جاء السحرة قال لهم موسى ألقوا ما أنتم ملقون}، {فلما ألقَوا} حبالهم وعصيهم، فانقلبت حَيَّات في أعين الناس، يركب بعضها بعضاً، {قال} لهم {موسى ما جئتم به السحر} أي: الذي جئتم به هو السحر، لا ما سماه فرعون وقومه سحراً من معجزات العصا. وقرأ البصري: {آلسحر} أي: أيّ شيء جئتم به السحر هو؟ {إن الله سيُبْطلُه}: سيمحقه، أو سيظهر بطلانه، {إن الله لا يُصلح عملَ المفسدين} لا يثيبه ولا يديمُه، وفيه دليل على أن السحر تمويه لا حقيقة له، {ويُحقُّ الله الحقَّ بكلماته} السابقة الأزلية، أو بأوامره وقضاياه، {ولو كره المجرمون} ذلك.
الإشارة: الأكوان كلها عند اهل التحقيق شعوذة سحرية، خيالية كخيال السحر الذي يظهره المشعوذ، تظهر ثم تبطن، وليس في الوجود حقيقة إلا الواحد الأحد الفرد الصمد، فهي ثابتة بإثباته، ممحوة بأحدية ذاته، وهي أيضاً أشبه شيء بالظلال، والظلال لا وجود لها من ذاتها، وإنما تابعة لشواخصها، ولذلك قالوا: ظلال الأشجار لا تعرق السفن عن التِّسْيار، فظلال الأكوان وأجرامها لا تعوق سفن الأفكار عن التسيار في بحار معاني الأسرار، بل تغيب عن ظلال حسها إلى فضاء شهود معانيها، فالعارف لا يحجبه عن الله شيء؛ لنفوذه إلى شهود أسرار الربوبية في كل شيء، والله تعالى أعلم.

8 | 9 | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15